الفرق بين الفتوى والفتيا
إليك هذا الكلام الجامع مما صدر عن دار الإفتاء المصرية
موقع دار الإفتاء المصرية
السبت ٢٨ أكتوبر ٢٠٢٣ م - ١٣ ربيع الآخر ١٤٤٥ هـ
العربية
الإفتاءُ بين اللغة والشرع
تاريخ النشر: 2011-07-20
أ- معاني الإفتاء ومشتقاته في اللغة:
- الإفتاء لغةً: مصدر بمعنى: الإبانة عن الأمر، ورفع الإشكال عنه. يقال: أَفْتَى الرجلُ في المسأَلة واسْتفتيته فيها فأَفتاني إفتاءً. ويقال: أفتيت فلانًا رؤيا رآها: إذا عبرتها له([1])، ومنه قوله تعالى حاكيًا: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ﴾([2]).
- والفتوى: ما أفتى به الفقيه، والجمع: الفتاوَى والفتاوِي، يقال: أفتيته فتوى وفُتيا، إذا أجبته عن مسألته. والفتوى بفتح الفاء اتفاقًا، وأجاز بعض أهل اللغة فيها (الفُتوى) بضم الفاء. والفتح لغةُ أهل المدينة، وهو الجاري على القياس.
- والفُتيا: تبيين المشكل من الأحكام. وهي اسم مصدر من الإفتاء.
- والتفاتي: التخاصم. وتفاتَوا إلى فلان: تحاكموا إليه، وارتفعوا إليه في الفتيا.
- والاستفتاء: طلب الجواب عن الأمر المشكل، يقال: استفتيته فأفتاني، أي: سألته أن يفتيَني (المصباح المنير مادة: ف ت ي)، ومنه قوله تعالى : ﴿وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾([3]). وقد يكون الاستفتاء بمعنى: مجرد السؤال، ومنه قوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا﴾([4])، قال المفسرون : أي: اسألهم([5]).
- والمفتي في اللغة: اسم فاعل أفتى، فهو المجيب عن سؤال المستفتي.
- والمستفتي: اسم فاعل استفتى، فهو السائل الذي يسأل المفتي عما أشكل عليه.
وأصلُ مادة الإفتاء ومشتقاته من (الفَتَى): وهو الشاب الحدث الذي شَبَّ وقَوِي، فكأَن المفتيَ يُقَوّي ما أشكل؛ ببيانه للمستفتي.
ب – الإفتاء ومشتقاته في القرآن الكريم([6]):
ورد ذكر الفتوى ومشتقاتها في القرآن الكريم في تسع آيات كريمات، كلها تحمل معنى السؤال عمَّا أشكل من سائر الأمور الدينية والدنيوية، وهذه الآيات هي:
اثنتان في سورة النساء بمعنى: الاستفتاء في أمور الدين، هما: قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾([7])، وقوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾([8]).
وثلاث في سورة يوسف بمعنى: تفسير الرؤيا، هن: قوله تعالى: ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾([9])، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾([10])، وقوله تعالى: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾([11]).
وواحدة في سورة الكهف بمعنى (مطلق) السؤال، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ ([12]) وهي هنا في حالة النهي بمعنى: لا تسأل. وفي ذلك يقول الإمام البيضاوي:﴿وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾: (أي): ولا تسأل أحدًا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد، فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره، مع أنه لا علم لهم بها، ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول عنه وتزييف ما عنده، فإنه مُخِلٌّ بمكارم الأخلاق"([13]).
وآية في سورة النمل بمعنى طلب النصح والمشورة، وهي قول الله تعالى على لسان بلقيس: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾([14]).
والآيتان الأُخريان في سورة الصافات بمعنى: السؤال المتعنت المطلوب من خلاله تفضيح المسؤول عنه وتزييف ما عنده؛ لأن الأمر هنا يتصل بموقف التحدي الذي وقفه الكفار من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهما: قوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا﴾([15])، وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾([16]).
ج – الإفتاء ومشتقاته في الحديث الشريف([17]):
أما في الحديث الشريف فقد وردت كلمة "الفتوى" ومشتقاتها أكثر من ثمانِمئة مرة، نذكر منها:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الإثْمُ ما حَاكَ في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتَوك))([18]). أي: وإن جعلوا لك فيه رخصة وأجازوه.
وقال - صلى الله عليه وسلم-: ((من أُفْتِى بفُتيا غير ثَبْتٍ؛ فإنما إثمه على مَنْ أفتاه)). وفي رواية: ((على الذي أفتاه))، وفي رواية أخرى: ((من أُفتي بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه))([19]). وهي هنا أيضًا بمعنى الرخصة أو الإجازة، فمن رخص لشخص أن يأتي عملا ما وهو غير متثبت من صحة الرخصة، فإن ارتكب المستفتي ذنبًا بموجب هذه الفتوى؛ فإن إثمه على المفتي.
ومن الأحاديث أيضًا ما روي من أن ((أربعة تَفَاتَوا إليه عليه السلام))، أي: تحاكموا إليه، وطلبوا منه الفتوى([20]).
ومنها أيضا قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض)) ذكره ابن الجوزي في تعظيم الفتوى([21]).
ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))([22]).
د- الإفتاء ومشتقاته في الاصطلاح:
- تتقارب المعاني الاصطلاحية للإفتاء ومشتقاته مع المعاني اللغوية المتقدمة.
- فالإفتاء في الاصطلاح: الإخبار عن حكم شرعي، لا على وجه الإلزام. "مواهب الجليل (1/32)".
- وفائدة القيد الأخير (لا على وجه الإلزام) تمييز الإفتاء عن القضاء؛ لأن أظهر الفروق بينهما: أن فتوى المفتي غير ملزمة للمستفتي، بخلاف قضاء القاضي فهو ملزم للمحكوم عليه، وسيأتي المزيد من وجوه الافتراق بين الإفتاء والقضاء في الموضع المعد لذلك.
- والفتوى في الاصطلاح عرفها ميارة بأنها: الإخبار بالحكم الشرعي من غير إلزام. "الإتقان والإحكام 1/ 8" وهو نفس تعريف الإفتاء السابق مع تغيير يسير في بعض الألفاظ.
- وعرفها البهوتي بأنها: تبيين الحكم الشرعي لمن سأل عنه. "شرح منتهى الإرادات"، وهو قريب من التعريف السابق، غير أنه أهمل القيد الأخير. ولعله أهمله لأنه لا حاجة إليه؛ لأن القضاء لم يدخل في جنس الإفتاء أصلا حتى يحتاج إلى إخراجه بهذا القيد؛ لأن جنس الإفتاء هو الإخبار بالحكم أو التبيين، والقضاء إنشاء للحكم وليس إخبارًا به. "مواهب الجليل 1/32".
- فالخلاصة: أن معنى الفتوى والفتيا في الاصطلاح: إخبار المفتي بالحكم الشرعي للواقعة المسؤول عنها. وهو لا يختلف عن معنى الإفتاء.
ومن تعريف الإفتاء والفتوى نعلم أن:
-المفتي هو المخبر بالحكم الشرعي للواقعة المسؤول عنها. وفي المعجم الوجيز: "المُفْتِي: فقيهٌ تُعَيِّنه الدولةُ ليُجيبَ عمَّا يُشكل من المسائل الشرعية. والجمع: مُفْتُونَ. ودار الإفتاء، ودار الفتوى: مكان المفتي"([23]).
- والمستفتي هو: السائل عن الحكم الشرعي للواقعة.
________________________________________
[1] - لسان العرب لابن منظور، القاموس المحيط للفيروآبادي، الموسوعة الفقهية.
[2] - سورة يوسف آية/ 43.
[3] - سورة الكهف آية/ 22.
[4] - سورة الصافات آية/ 11.
[5] - تفسير القرطبي 15/ 68، وتفسير ابن كثير 4/ 3، ط عيسى الحلبي، الموسوعة الفقهية.
[6] - من كتاب الإفتاء المصري، ص 77- 79، بتصرف.
[7]- سورة النساء، الآية: 127.
[8]- سورة النساء، الآية: 176.
[9]- سورة يوسف، الآية: 41.
[10]- سورة يوسف، الآية: 43.
[11]- سورة يوسف، الآية: 46.
[12]- سورة الكهف، الآية: 22.
[13]- البيضاوي، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، المعروف بتفسير البيضاوي، المطبعة العثمانية، 1329هـ، ص 390.
[14]- سورة النمل، الآية: 32.
[15]- سورة الصافات، الآية: 11.
[16]- سورة الصافات، الآية: 149.
[17]- من كتاب الإفتاء المصري.
[18]- رواه أحمد في مسنده 4/194، والدارمي في البيوع والرقائق، ورواه غيرهما كالبزار والطبراني وأبو يعلى، وحَسَّنه النووي، والألباني، وورد في صحيح مسلم بلفظ ((والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)).
[19]- رواه أحمد، وابن ماجه، وأبو داود.
[20]- الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية، 1/ 8.
[21]- ابن حمدان، أحمد بن حمدان النمري الحراني الحنبلي: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1397هـ، ص 5- 6.
[22]- ابن حمدان: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، ص 6. وقال: حديث حسن.
[23]- مجمع اللغة العربية: المعجم الوجيز، طبعة وزارة التربية والتعليم، القاهرة، 1413هـ/ 1992م، ص 462.
تعليقات
إرسال تعليق